الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك ***
هو اصطلاح البصريين، وأما الكوفيون فقال الأخفش: يسمونه بالترجمة والتبيين. وقال ابن كيسان: يسمونه بالتكرير. وقوله: التابع المقصود بالحكم بلا... واسطة هو المسمَّى بدلا "التابع": جنس, و"المقصود بالحكم": يخرج النعت والتوكيد وعطف البيان؛ لأنهن مكملات للمقصود بالحكم, و"بلا واسطة" مخرج "لعطف" النسق. وتخصيص الشارح المعطوف ببل وبلكن كما في شرح الكافية, يقتضي حمل المقصود على المستقل بالقصد، وإلا فلا وجه للتخصيص. ولما عرّفه, أخذ في ذكر أقسامه فقال: مطابقا أو بعضا أو ما يشتمل... عليه يُلفَى أو كمعطوف ببل هذه أربعة: الأول: المطابق, كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ}. وهو المسمى بدل كل من كل. قال في شرح الكافية: وذكر المطابقة أولى؛ لأنها عبارة صالحة لكل بدل يساوي المبدل منه في المعنى، بخلاف العبارة الأخرى. فإنها لا تصدق إلا على ذي أجزاء، وذلك غير مشروط للإجماع على صحة البدلية في أسماء الله تعالى, كقراءة غير نافع وابن عامر: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، اللَّهِ}. الثاني: بدل بعض من كل، نحو: "قبضت المال نصفه" والبعض عند البصريين يقع على أكثر الشيء وعلى نصفه وعلى أقله. وعن الكسائي وهشام: أن بعض الشيء لا يقع إلا على ما دون نصفه؛ ولذلك منع أن يقال: "بعض الرجلين لك" أي: أحدهما. الثالث: بدل اشتمال, وهو ما صح الاستغناء عنه بالأول، وليس مطابقا له ولا بعضا. وقيل: هو ما لابس الأول بغير الكلية والجزئية. وقيل: إما دالّ على معنى في متبوعه نحو: "أعجبني زيدٌ حسنُهُ". أو مستلزم معنى فيه نحو: "أعجبني زيدٌ ثوبُهُ". والأول هو الكثير. الرابع: بدل مباين مطلقا, بحيث لا يشعر به ذكر المبدل منه بوجه؛ ولهذا شبهه بالمعطوف ببل، وهو قسمان سيأتي ذكرهما. تنبيهات: الأول: لا بد في "بدل" الاشتمال من مراعاة أمرين: أحدهما: إمكان فهم معناه عند الحذف، ومن ثَمَّ جعل نحو: "أعجبني زيد أخوه" بدل إضراب لا بدل اشتمال، إذ لا يصح الاستغناء عنه بالأول، والآخر: حسن الكلام على تقدير حذفه، ومن ثم امتنع نحو: "أسرجت زيدا فرسه"؛ لأنه وإن فهم معناه في الحذف، فلا يستعمل مثله ولا يحسن. فلو ورد مثل هذا في الكلام, لكان بدل غلط. الثاني: اشتراط أكثر النحويين في بدل "البعض" وبدل الاشتمال ضميرا عائدا على المبدل منه. قال المصنف: والصحيح عدم اشتراطه، لكن وجوده أكثر من عدمه، ذكر من الشواهد على الاستغناء عن الضمير في بدل البعض قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. وفي بدل الاشتمال، قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ}. قلت: وتُؤُولت الآيتان على حذف الضمير, أي: منهم وفيه. وظاهر التسهيل أنه لا بد من ضمير أو ما يقوم مقامه, ومثّل "للقائم" مقامه بـ {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ}، فالألف واللام تقوم مقام الضمير. وذهب الفراء وتبعه ابن الطراوة إلى أن "النار" بدل كل من كل، عبر بالأخدود عن النار لما كان مشتملا عليها كقولهم: "عفيف الإزار". وقال ابن هشام: الأولى أن يكون على حذف مضاف، أي: أخدود النار. وقال ابن خروف: هو بدل إضراب. الثالث: اختُلف في المشتمِل في بدل الاشتمال، فقيل: هو الأول, وقيل: الثاني, وقيل: العامل. فإن قلت: فما المفهوم من كلامه؟ قلت: قوله: "أو ما يشتمل عليه" يحتمل القول الأول والثالث. وإلى الأول ذهب في التسهيل. الرابع: رد السهيلي بدل البعض, وبدل الاشتمال إلى بدل الكل، فقال: العرب تتكلم بالعام وتريد به الخاص، وتحذف المضاف وتنويه. فإذا قلتَ: "أكلت الرغيف ثلثه", إنما تريد: أكلت بعض الرغيف, "ثم" بينتَ ذلك البعض. وبدل المصدر من الاسم إنما هو في الحقيقة من صلة مضافة إلى ذلك الاسم. الخامس: زاد بعضهم في الإبدال بدل كل من بعض، كقول امرئ القيس: كأني غَدَاةَ البَيْنِ يومَ تحمّلوا........................... ونفاه الجمهور, وتأولوا البيت. وقوله: وذا للاضراب اعْزُ إن قصدا صحب... ودون قصد غَلَط به سُلِب الإشارة إلى القسم الرابع، أعنى: المباين, فذكر أنه نوعان: أحدهما: يسمى بدل الإضراب، وبدل البداء أيضا، وهو ما يذكر متبوعه بقصد كقولك: "أعط السائل رغيفا درهما", ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الرجل ليصلي الصلاة, وما كتب له نصفُها ثُلثها" إلى "عشرها". ولم يثبت بعضهم بدل البداء. والآخر: يسمى بدل الغلط، وهو ما لا يقصد متبوعه بل يجري على لسان المتكلم من غير قصد. وهذا النوع, قال المبرد وغيره: لا يوجد في كلام "العرب" لا نثرها ولا نظمها, وإنما يقع في لفظ "الغلاط". وزعم قوم, منهم ابن السيد أنه وجد في شعر العرب، كقول ذي الرمة: لمياء في شفتيها حُوَّةٌ لَعَسٌ......................... قال: "لعس" بدل غلط؛ لأن الحوة السواد، واللعس سواد يشوبه حمرة، وذكر بيتين آخرين، ولا حجة له فيما ذكره؛ لإمكان تأويله. فإن قلت: ما معنى قوله: "به سلب"؟ قلت: يعني: أن بدل الغلط سلب الحكم عن الأول وأثبته للثاني. فإن قلت: كيف قال: "ودون قصد" ولا بد من قصد البدل في النوعين, أعني: بدل الإضراب وبدل الغلط؟ قلت: إنما يعني نفي القصد في بدل الغلط "بقصد الأول لا الثاني". تنبيه: زاد ابن عصفور بدل النسيان نحو: "مررت برجل امرأة" إذا توهمت أن الممرور به رجل, ثم تذكرت أنه امرأة. وقد أدرجه الشارح في بدل الغلط، وإدراجه في بدل الإضراب أقرب. ولما ذكر أقسام البدل مثّلها في قوله: كَزُرْهُ خالدا وقبِّلْه اليدا... واعرفه حقه وخذ نَبْلا مُدَى فزره خالدا بدل كل، وقبله اليدا بدل بعض، واعرفه حقه بدل اشتمال، وخذ نبلا مدى بدل إضراب إن قدر قصد الأول، وبدل غلط إن قدر عدم قصده. فإن قلت: قد فهم من كون البدل تابعا، أنه يوافق متبوعه في الإعراب، فما حاله في التعريف والتذكير والإفراد وأضدادها؟ قلت: أما التعريف والتنكير فلا يلزم موافقته لمتبوعه فيهما، بل تبدل المعرفة من المعرفة نحو: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، اللَّهِ} , في قراءة من جر. والنكرة من النكرة نحو: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}. والمعرفة من النكرة نحو: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ}. والنكرة من المعرفة نحو: {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ}. واشترط الكوفيون في إبدال النكرة من النكرة أن تكون موصوفة، واشترطوا في إبدال النكرة من المعرفة شرطين: اتحاد اللفظ، وكونها موصوفة، كذلك نقل المصنف. ونقل غيره اشتراط الأول من الشرطين عن نحاة بغداد لا عن نحاة الكوفة، وكلام أهل الكوفة يدل على عدم اشتراطه, ووافقهم على اشتراط "الثاني طائفة من المتأخرين، وحكي عن الكوفيين أيضا اشتراط" اتحاد اللفظ في بدل المعرفة من النكرة. والصحيح أنه لا يشترط "شيء" من ذلك؛ لورود السماع به. قال في الارتشاف: وقد سمع إبدال النكرة من المعرفة، وليست من لفظ الأول ولا موصوفة، وهو مذهب البصريين. وأما التذكير والإفراد وأضدادهما, فإن كان بدل كل وافق متبوعه فيها ما لم يمنع مانع من التثنية والجمع، ككون أحدهما مصدرا نحو: {مَفَازًا, حَدَائِقَ} أو قصد التفصيل نحو: وكنتُ كذي رِجْلينِ رِجْلٍ صحيحةٍ... ورجلٍ رمى فيها الزمان فشلت وإن كان غيره من أنواع البدل لم يلزم موافقته فيما ذكر. قوله: ومن ضمير الحاضر الظاهر لا... تُبدله إلا ما إحاطة جلا أو اقتضى بعضا أو اشتمالا... كأنك ابتهاجَكَ استمالا اعلم أنه يجوز إبدال الظاهر من "الظاهر", وإبدال الظاهر من المضمر على تفصيل، وهو أن الضمير إن كان لغائب أبدل منه الظاهر مطلقا نحو: "ضربته زيدا". وإن كان لحاضر, أبدل منه بدل البعض نحو: أوعدني بالسجن والأداهم... رجلي فرجلي شثنة المناسم في أحد الأوجه. وبدل الاشتمال نحو: ..................... وما أَلْفيتني حِلْمي مُضَاعا ومثله قوله: "ابتهاجك استمالا". وأما بدل الكل، فإما أن يفيد معنى الإحاطة كالتوكيد, أو لا. فإن أفاد معنى الإحاطة جاز نحو: "جئتم صغيركم وكبيركم", ومنه {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}. وإلا فمذاهب. أحدها: المنع، وهو قول جمهور البصريين. والثاني: الجواز، وهو قول الأخفش والكوفيين، وسمع الكسائي إلى أبي عبد الله وقال: بكُمْ قريشٍ كُفينا كل معضِلة........................... والثالث: أنه يجوز في الاستثناء نحو: "ما ضربتكم إلا زيدا" وهو قول قطرب. وأما إبدال المضمر من المضمر فنحو: "رأيتك إياك", وتقدم الخلاف فيه في باب التوكيد. وأما إبدال المضمر من الظاهر فنحو: "رأيت زيدا إياه". قال في التسهيل: ولا يُبدل مضمر من مضمر ولا من ظاهر، وما أوهم ذلك جُعل توكيدا إن لم يُفِد إضرابا. وقال في شرحه: والصحيح عندي أن نحو: "رأيت زيدا إياه" لم يستعمل في كلام العرب نثره ونظمه، ولو استعمل لكان توكيدا. وأشار بقوله: ما لم يفد إضرابا إلى نحو: إياك وإياي قصد زيد، تريد: إياي فإنه بدل.... قوله: وبَدَل المُضمن الهمز يلي... همزا كمن ذا أسعيد أم علي يعني: أن المبدل من اسم الاستفهام لا بد من اقترانه بالهمزة، وقد مثّله. تنبيه: نظير هذه المسألة بدل اسم الشرط, فإنه يقرن بإن نحو: "متى تقم إن ليلا, وإن نهارا قمت". قوله: ويُبدَل الفعل من الفعل كمن... يصل إلينا يَستعِنْ بنا يُعَن يجوز إبدال الفعل من الفعل بدل كل، قال في البسيط: باتفاق، ومنه: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا............................ وبدل الاشتمال نحو: {يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ} , و"من يصل إلينا يستعن بنا يُعَن" وحكى في البسيط فيه خلافا. ولا يبدل بدل بعض، وأما بدل الغلط فقال في البسيط: جوّزه سيبويه وجماعة من النحويين، والقياس يقتضيه. تنبيهان: الأول: ذكر كثير من النحويين أن الجملة قد تبدل من الجملة، ومثله الشارح بقوله: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا.............................. وبقوله عز وجل: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا}. وبقوله تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}. وبقوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. وفي الارتشاف: وما استدل به لا يقوم به حجة. الثاني: أجاز ابن جني والزمخشري والمصنف أن تبدل الجملة من المفرد، وجعل المصنف من ذلك: "عرفت زيدا أبو من هو". وجعل الزمخشري قوله تعالى: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} بدلا من النجوى. وجعل ابن جني "كيف يلتقيان" بدلا من حاجة وأخرى في قوله: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة... وبالشام أخرى كيف يلتقيان؟ كأنه قال: أشكو هاتين الحاجتين تعذُّر التقائهما. فيه لغتان: كسر النون، وضمها. ومعناه لغة: الدعاء. واصطلاحا: دعاء بحروف مخصوصة، وهي: يا، وأي، وأَيَا، وهيا، والهمزة، ووا في الندبة. وزاد الكوفيون: آ، وآيْ بالمد. وأخبر سيبويه رواية عن العرب أن الهمزة للقريب المصغي، وأن ما سواها للبعيد مسافة أو حكما. وعلى مذهب سيبويه اعتمد الناظم فقال: وللمنادى الناءِ أو كالناء يا... وأَيْ وآ كذا أَيَا ثم هَيَا والهمز للداني.... فالنائي: هو البعيد مسافة، وكالنائي: هو البعيد حكما كالساهي، والداني: هو القريب، ولا حاجة إلى ذكر سائر المذاهب؛ لأن قائليها لم يعتمدوا إلا على الرأي، والرواية لا تعارض بالرأي، كذا قال المصنف. وقوله: ووا لمن ندب. يعني: مختصة بالندبة، وهذا مذهب سيبويه والجمهور، وأجاز بعضهم استعمالها في غير الندبة قليلا. وقوله: "أو يا" يعني: أن "يا" قد تستعمل في الندبة بشرط أمن اللبس, فإن خِيفَ التباس المندوب بغيره تعينت "وا". ولذلك قال: وغير وا لدى اللبس اجتُنب تنبيهات: الأول: أجمعوا على أن نداء القريب بما للبعيد يجوز توكيدا، وعلى منع العكس. الثاني: ذهب بعض النحاة إلى أن هذه الأدوات أسماء أفعال محتملة لضمائر مستترة. الثالث: ذهب ابن السكيت إلى أن ها "هيا" بدل من همزة "أيا" وتبعه ابن الخشاب. الرابع: قال في شرح التسهيل: لم يذكر آ، وآي -بالمد- إلا الكوفيون, رووهما عن العرب الذين يثقون بعربيتهم، ورواية العدل مقبولة. قلت: وذكر غيره أن الأخفش حكى "آ" في الكبير، وجعلها ابن عصفور للقريب كالهمزة. وقوله: وغير مندوب ومُضْمَر وما... جا مستغاثا قد يُعَرَّى فاعلما المنادى قسمان: فالأول: يمتنع حذف حرف النداء معه، وهو المندوب نحو: "وا زيداه", والمضمر نحو: "يا أنت ويا إياك", والمستغاث نحو: "يا لزيد". فإن قلت: ما سبب "منع" الحذف مع هذه الثلاثة؟ قلت: أما المندوب والمستغاث؛ فلأن المطلوب فيهما مد الصوت، والحذف ينافيه. وأما المضمر فلأن الحذف معه تفوت به الدلالة على النداء. تنبيه: فهم من كلامه جواز نداء المضمر، وفيه تفصيل. فإن كان لمتكلم أو غائب لم يجز، لا يقال: "يا أنا", ولا "يا هو", و"إن كان" لمخاطب ففيه خلاف. قال في الارتشاف: والصحيح المنع. انتهى. وقد سمع ما ظاهره نداء المضمر بصيغة النصب كقوله: "يا إياك قد كفيتُكَ" وهو القياس، وبصيغة الرفع كقوله: يا أبجرُ بنَ أبجرِ يا أنتا وهو من نيابة بعض الضمائر عن بعض. وتأول بعضهم: "يا إياك" على أن "يا" للتنبيه و"إياك" منصوب بمقدر يدل عليه الظاهر بعده. و"يا أنت" على أن "يا" للتنبيه و"أنت" مبتدأ، و"أنت" الثاني مبتدأ ثانٍ أو توكيد, أو فصل، أو بدل، والخبر الموصول. والقسم الثاني: يجوز فيه حذف النداء -وهو ما عدا القسم الأول- إلا أن منه ما يقل الحذف معه، ومنه ما يكثر. وقد نبّه على ما يقل بقوله: وذاك في اسم الجنس والمشار له... قل ومن يمنعه فانصر عاذله الإشارة إلى تعرِّيه من الحرف. ومن حذفه من اسم الجنس قوله: "ثوبي حَجَر". وجاءت منه ألفاظ في النثر والنظم. ومذهب البصريين: أن حذف حرف النداء منه, لا يجوز إلا في شذوذ أو ضرورة. وهو عند الكوفيين قياس مطرد. ومن حذفه من اسم الإشارة قوله: ........................ بمثلك هذا لوعة وغرام وسمع منه أبيات. ومذهب البصريين: أنه لا يجوز؛ ولذلك لحنوا أبا الطيب في قوله: هذي بَرَزتِ لنا فهجتِ رَسِيسا ومذهب الكوفيين جوازه، وجعلوا منه قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}. تنبيه: ظاهر كلامه موافقة الكوفيين على الجواز، وقال الشارح: وقول الشيخ: ومن يمنعه فانصر عاذله، يوهم اختيار مذهب الكوفيين. هذا, إن لم يحمل المنع على عدم قبول ما جاء من ذلك. قلت: قد صرح بموافقتهم في اسم الجنس في شرح الكافية، فقال: وقولهم هذا أصح. انتهى. والإنصاف القياس على اسم الجنس؛ لكثرته نثرا ونظما. "وقصر" اسم الإشارة على السماع، إذ لم يرد إلا في الشعر. وأما نحو: "ثم أنتم هؤلاء" فمتأول. فإن قلت: فهم من كلامه أن ما سوى هذه الخمسة يجوز معه حذف حرف النداء، وليس على إطلاقه. فقد ذكر في التسهيل: أن مما يلزمه الحرف لفظ الجلالة والمتعجب منه، ولم يذكرهما هنا، وقد ذكر الأول في الكافية دون الثاني. قلت: لما كان الأكثر في لفظ الجلالة تعويض الميم عن حرف النداء, لم يذكره مع ما يلزمه الحرف. وأما المتعجب منه، فلما كان كالمشتقّات لفظا وحكما نحو: "يا للماء" استغنى بذكره عنه. فإن قلت: إذا كان حرف النداء غير لازم مع لفظ الجلالة؛ لكونه قد يحذف إذا عوض عنه. فما وجه ذكره في التسهيل والكافية مع ما يلزم الحرف؟ قلت: وجهه أنه مما يلزمه الحرف إذا لم يعوض. فإن قلت: أطلق في اسم الجنس، والمراد إنما هو اسم الجنس المبني للنداء، فإنه محل الخلاف. فأما اسم الجنس المفرد غير المعين, فقد نص في الكافية وشرحها على أن الحرف يلزمه. قلت: أجاز بعضهم حذف الحرف منه أيضا نحو: "رجلا خذ بيدي". فلعله ذهب هنا إلى ذلك، فيكون إطلاقه مرادا. فإن قلت: وأطلق أيضا في "اسم" الإشارة، وهو مقيد بألا يصحب كاف الخطاب, فإن صحبها ففي ندائه مع ثبوت الحرف خلاف، وممن منع السيرافي. فإن لم يصحبه الحرف, فلا خلاف في جواز ندائه, ذكره في الارتشاف. قلت: كأنه اعتمد على تقييده بالواقع؛ لقلته. تنبيه: قال في الكافية, بعد ذكر لفظ الجلالة والمضمر والمستغاث واسم الإشارة واسم الجنس: وغير ذي الخمسة ناده بيا... أو غيرها أو أوله تعريا وذكر في شرحها أن ذلك بإجماع. فقد يقال: يرد عليه المندوب والمتعجب منه. والجواب: أنه ذكر المندوب قبل ذلك, فقال: وألزم المندوب وا أو لفظ يا, وتقدم الجواب عن المتعجب منه. والحاصل: أن حرف النداء يجوز حذفه من العلم نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}. والمضاف نحو: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي}، والموصول نحو: "من لا يزال محسنا أحسن إليَّ"، وأي نحو: "أيها المؤمنون", والمطول نحو: "خيرا من زيد أقبل". ويختلف في جواز حذفه من اسم الجنس المبني للنداء، واسم الإشارة، والنكرة غير المقصودة. ويمتنع مع الأشياء المتقدم ذكرها. قوله: وابن المعرَّف المنادى المفردا... على الذي في رفعه قد عُهدا المعرف: يشمل ما له تعريف قبل النداء نحو: "يا زيد", وما "حصل" له تعريف في النداء نحو: "يا رجل". أما نحو: "يا زيد" فقيل: باقٍ على علميته، وهو مذهب ابن السراج، وقيل: سلب تعريف العلمية وتعرف بالإقبال، وهو مذهب المبرد والفارسي. وإلى الأول ذهب المصنف، واحتج بنداء ما لا يمكن سلب تعريفه كاسم الله تعالى واسم الإشارة. وأما نحو: "يا رجل"، فقيل: تعرف بالإقبال والقصد, وإليه ذهب المصنف وقيل: بأل محذوفة. والمراد بالمفرد هنا: ما ليس مضافا ولا شبيها به كما في باب "لا", فيشمل المثنى والجمع والمركب تركيب مزج. وقوله: على الذي في رفعه قد عُهدا يعني: أنه يبنى على ما كان يرفع به قبل النداء من ضمة ظاهرة نحو: "يا زيد" و"يا رجال" و"يا مسلمات"، أو مقدرة نحو: "يا زيدون". فإن قلت: ما علة بناء المنادى المفرد؟ قلت: شبهه بالمضمر من نحو: "يا أنت" في التعريف والإفراد, وتضمين معنى الخطاب. وقيل: إجراؤه مجرى الأصوات, ونسب إلى سيبويه. تنبيهات: الأول: قال في التسهيل: ويجوز نصب ما وُصف من معرّف بقصد وإقبال، وحكاه في شرحه عن الفراء، وأيده بما روي من قوله -عليه الصلاة والسلام- في سجوده: "يا عظيما يُرجَى لكل عظيم". وجعل منه: أَدَارًا بجُزْوَى هجتِ للعين عَبْرة.... فظاهر مذهب البصريين أن النصب في هذا البيت ونحوه؛ لقصد التنكير. الثاني: ذهب الكسائي والزيادي إلى أن ضمة "يا زيد" ونحوه ضمة إعراب, ونقله ابن الأنباري عن الكوفيين. الثالث: ذهب بعض الكوفيين, إلى أن نداء المثنى والمجموع على حده بالياء, تشبيها بالمضاف. قال في البسيط: وهو فاسد؛ لأنه ليس مركبا. الرابع: إذا ناديت "اثني عشر" و"اثنتي عشرة" قلت: يا اثنا عشر ويا اثنتا عشرة, بالألف. وقال الكوفيون: يا اثني عشر، ويا اثنتي عشرة -بالياء- إجراء لهما مجرى المضاف. وأشار بقوله: وانوِ انضمام ما بنوا قبل الندا إلى أن ما كان مبنيا قبل النداء، يقدر بناؤه على الضم نحو: ""يا سيبويه" و"يا رقاش" و"يا خمسة عشر" و"يا برق نحره"". "ويظهر أثر التقدير في التابع فيجوز": "يا سيبويه الظريف" -بالنصب- اتباعا للمحل -وبالرفع- اتباعا للبناء المقدر. وإلى هذا أشار بقوله: .... وليُجْزَ مجرى ذي بناء جُدِّدا ثم قال: والمفرد المنكور والمضافا... وشِبْهه انصب عادما خلافا مثال المفرد المنكور -يعني: الذي لم يقصد به معين- قول الأعمى: "يا رجلا خذ بيدي", وقوله: أيا راكبا إما عرضت فبلغَنْ........................... والمضاف نحو: "يا غلام زيد", والمشبه بالمضاف -ويسمى المطول والممطول- وهو طول بعمل أو عطف نحو: "يا عظيما فضله" و"يا راحما عبده" و"يا لطيفا بالعباد", ونحو: "يا ثلاثةً وثلاثين" اسم رجل. فلو ناديت جماعة هذه عدتهم قلت: يا ثلاثة والثلاثون فيمن قال: والحارثُ, والثلاثين فيمن قال: والحارثَ. وفصل الأخفش فقال: إن أريد بذلك جماعة مبلغها هذا العدد, فلا يجوز إلا نصب الاسمين؛ لأنهما إذ ذاك وقعا على مسمى واحد. وإن "كان" الثلاثة على حدة والثلاثون على حدة، حكم لهما بحكم المعطوف "والمعطوف" عليه. قيل: وينبغي أن يفصل فيما إذا كان كل منهما على حدة بين أن يكون كل منهما مقصودا بالنداء، فالحكم كذلك، وبين أن يقصد ثلاثة مبهمة فينصبا معا. تنبيه: لا يطول المنادى بمعموله، إلا إذا كان ملفوظا به، فلا يعتدّ بالضمير المستكن. "فرعان" على ذلك: لو قلت: "يا ذاهبُ" لبنيت على الضم؛ لعدم الاعتداد بالضمير. ولو قلت: "يا ذاهبُ وزيد" فإن عطف على ذاهب فالبناء، أو على الضمير نصبت لعمله في "زيد" بواسطة الحرف. ومن ثم وجب: "يا مشتركا وزيدا" بالنصب, عطفا على الضمير؛ لعدم استغنائه بواحد. فإن قلت: كيف قال: "عادما خلافا" مع أن في بعض ذلك خلافا؟ ذهب المازني: أنه لا يتصور وجود للنكرة غير المقبل عليها، وأن ما جاء منونا نحو: أدارا بجزوى هجت للعين عبرة ضرورة. وذهب ثعلب: إلى جواز ضم المضاف الصالح للألف واللام نحو: "يا حسن الوجه". قلت: أما الأول: فخلاف في وجود قسم، لا في حكمه. وأما الثاني: فجوابه أن مراده: "عادما خلافا" في صحة النصب، ولم يختلف في صحته، وإن أجاز بعضهم معه الضم في بعض المواضع. وقوله: ونحو زيد ضُمَّ وافتحن من... نحو أزيدُ بنَ سعيد لا تهن يجوز في المنادى المضموم أن يفتح بخمسة شروط: الأول: أن يكون عَلَما. الثاني: أن ينعت بابن. الثالث: أن يضاف الابن إلى علم. الرابع: ألا يفصل بين ابن وموصوفه. الخامس: أن يكون المنادى مما يُضم لفظا. فلو كان غير علم نحو: "يا غلام ابن زيد" أو منعوتا بغير ابن نحو: "يا زيد الكريم", أو أُضيف الابن إلى غير علم نحو: "يا زيد ابن أختنا", أو كان المنادى لا تظهر الحركة فيه نحو: "يا عيسى بن مريم" تعين الضم. وقد جمع هذه الشروط قوله: "أزيد بن سعيد". فيجوز في "زيد" ضمه على الأصل، وفتحه إتباعا لفتحة "ابن" ولا يعتد بفصل الساكن. وقد نص على اشتراط عَلَمية المنادى والمضاف إليه واتصاله بقوله: والضم إن لم يَلِ الابنُ علمًا... أو يل الابنَ علمٌ قد حُتما فإن قلت: من أين يفهم اشتراط الاتصال؟ قلت: من قوله: "يَلِ". فإن قلت: قد أخل بالشرط الخامس. قلت: هو شرط مختلف فيه، فإن الفراء أجاز في نحو: "يا عيسى بن مريم" تقدير الفتحة والضمة، إلا أن المصنف شرطه في التسهيل وأوجب تقدير الضمة, إذ لا فائدة في تقدير الفتحة. فإن قلت: كان ينبغي أن ينص على أن شرط الفتح في ذلك جعل الابن صفة؛ لأنه لو جعل بدلا أو عطف بيان أو منادى أو مفعولا بفعل مقدر تعيّن الضم، ولا يغني تمثيله عن ذلك؛ لأن المثال يحتمل هذه الأوجه. قلت: هي احتمالات مرجوحة، وكونه نعتا هو الظاهر، ولو نص على ذلك لكان أولى. فإن قلت: لم يبيّن أي الوجهين أرجح. قلت: ذهب المبرد إلى أن الضم أجود، وقال ابن كيسان: الفتح أكثر في كلام العرب. قيل: والفتح اختيار البصريين. تنبيهات: الأول: لا إشكال في أن فتحة "ابن" فتحة إعراب إذا ضم موصوفه، وأما إذا فُتح فمذهب الجمهور أنها أيضا فتحة إعراب، وقال عبد القاهر: هي حركة بناء؛ لأنك ركَّبته مع "زيد". الثاني: حكم "ابنة" حكم "ابن" فيما ذكر، فيجوز الضم والفتح في نحو: "يا هند بنةَ زيدٍ" خلافا لبعضهم. وأما النعت ببنت, فلا أثر له في النداء. الثالث: يلحق بالعَلَم نحو: "يا فلانُ بنَ فلان" و"يا ضُلُّ بنَ ضل" و"يا سيد بن سيد" ذكره في التسهيل, وهو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في ذلك ونحوه مما ليس بعلم, التزام الضم. الرابع: أجاز الكوفيون فتح المنعوت بغير "ابن", إذا كان المنعوت مفردا نحو: يا زيد الكريم" وأنشدوا ................. يا عمرَ الجوادا بالفتح. وخرج على وجهين: أحدهما: أن أصله "يا عمرا" -بالألف- عند من يجيز إلحاقها من غير الندبة والاستغاثة والتعجب. والآخر: أصله "عمرًا" -بالتنوين- ضرورة، ثم حذفه؛ لالتقاء الساكنين. الخامس: حكى الأخفش عن بعض العرب: "يا زيدُ بنُ عمرو" بضم النون, إتباعا لضمة الدال. وقوله: واضمم أو انصب ما اضطرارا نُوِّنا... مما له استحقاق ضم بُيِّنا الذي يستحق البناء على الضم هو المعرفة، فإذا اضطر شاعر إلى تنوينه جاز له فيه وجهان: أحدهما: الضم, تشبيها بمرفوع، اضطر إلى تنوينه وهو مستحق لمنع الصرف. والثاني: النصب، تشبيها بالمضاف لطوله بالتنوين. وكلاهما مسموع من العرب. والضم اختيار الخليل وسيبويه، والنصب اختيار أبي عمرو وعيسى ويونس والجرمي والمبرد. قال المصنف: وعندي أن بقاء الضم راجح في العلم، والنصب راجح في النكرة المعينة؛ لأن شبهها بالمضمر أضعف. وقوله: وباضطرار خُص جمع يا وأل... إلا مع الله ومحكِيِّ الجُمَل يعني: أن الجمع بين حرف النداء وحرف التعريف مخصوص بالضرورة كقوله: فيا الغلامان اللذان فرا...................... إلا في موضعين: أحدهما: "مع" الله، فيجوز "يا الله" بوصل الهمزة وقطعها؛ للزوم أل لهذا الاسم حتى صارت بمنزلة الحروف الأصلية. والآخر: ما سمي به من الجمل المصدّرة بأل نحو: "يا المنطلق زيد" -في رجل مسمى بذلك- نص عليه سيبويه. تنبيه: قاس المبرد ما سمي به من موصول مصدر بأل على الجملة نحو: "يا الذي قام", قال في شرح التسهيل: وهو قياس صحيح. انتهى. ونص سيبويه على منعه. فإن قلت: أهمل هنا موضعا ثالثا ذكره في التسهيل وهو اسم الجنس المشبه به نحو: "يا الأسدَ شدةً". قلت: إنما لم يذكره هنا لأن مذهب الجمهور منعه، والجواز مذهب ابن سعدان في شرح التسهيل, وهو قياس صحيح؛ لأن تقديره: يا مثلَ الأسد, فحسن لتقدير دخول "يا" على غير الألف واللام. وأجاز الكوفيون والبغداديون دخول حرف النداء على ما فيه "أل" مطلقا، ولا حجة لهم في نحو: "يا الغلامان" لأنه ضرورة. وقوله: والأكثر اللَّهُمَّ بالتعويض يعني: أن الأكثر في نداء هذا الاسم الشريف تعويض الميم المشددة في آخره عن حرف النداء، فيقال: "اللهم" وهذا من خصائصه. ثم قال: وشذ يا اللهم في قريض وجه شذوذه أن فيه جمعا بين العِوَض والمعوَّض، ومنه قوله: إني إذا ما حَدَثٌ ألمّا... أقول يا اللهم, يا اللهما تنبيهات: الأول: مذهب الكوفيين أن الميم في "اللهم" بقية جملة محذوفة وهي: "أمّنا بخير", وليست عوضا عن حرف النداء؛ فلذلك أجازوا الجمع بينهما في الاختيار. الثاني: شذ أيضا حذف "أل" منه كقوله: لاهُمَّ إن كنت قَبِلت حجتج................. وهو في الشعر كثير. الثالث: قال في الارتشاف: لا يستعمل "اللهم" إلا في النداء، وشذ استعماله في غير النداء. قلت: أنشد الفراء لبعض العرب: كحلفة من أبي رِيَاح... يسمعها لاهم الكبار وفيه شذوذان: أحدهما: استعماله في غير النداء؛ لأنه فاعل يسمعها. والثاني: تخفيف ميمه. الرابع: إذا قلت: "اللهم" ففي جواز وصفه خلاف؛ منعه سيبويه والخليل، قال بعضهم: لأنه لما اتصلت به الميم صار بمنزلة صوت كقولك: "يا هناه", وأجازه المبرد والزجاج. الخامس: قال في النهاية: استعمل "اللهم" على ثلاثة أنحاء: أحدها: أن "يراد به" النداء المحض، كقولهم: "اللهم أمنا". والثاني: أن يذكره المجيب تمكينا للجواب في نفس السامع، يقول لك القائل: "أزيد قائم؟" فتقول: اللهم نعم، أو اللهم لا. الثالث: أن تستعمل دليلا على الندرة وقلة وقوع المذكور, كقوله: "أنا أزورك اللهم إذا لم تدعُني". ألا ترى أن وقوع "الزيارة" مقرونا بعدم الدعاء قليل؟ انتهى.
|